اليونان تحترق.. والسبب ضابط شرطة قتل صبياً!!

أن يعيش شعب بكرامة.. أن يشعر أن حكومته تعمل له وفي خدمته.. تلك هي القاعدة في كل بلاد العالم الحر، وتلك هي قضية الشعوب التي تحترم إنسانيتها وكرامتها وتاريخها.. قد تجد ذلك في دول العالم الأول حسب التصنيف القبلي الجديد!! أو العالم الثاني.. أما أن تجده في دولة من دول العالم الثالث، فهذا أشبه بشق البحر بعصا موسى حتى يهلك الفراعنة والطغاة في كل أرجاء الأرض تحت غضب السماء، بعد أن داستهم أقدام شعوبهم.. ولا أظن أن هذا يمكن أن يحدث في شعوب استساغت طعم الذل وأصبحت المصلحة أعلى من الكرامة، والحُكم فوق الحِكمة، والملك فوق العدل، والشرطة وخدامها بأحذيتهم فوق رءوس الشعوب.
ما الذي يدفعنا لهذا القول؟.. شعب اليونان الذي انتفض وتحرك لمقتل صبي عمره خمسة عشر عاما على يد شرطي، ورأت المحكمة أن الشرطي لم يُصبه عن عمد بل أخرج رصاصة فاصطدمت بجدار صلب وارتدت لتردي هذا الصبي قتيلا!! ربما كان هذا الكلام مقبولا ومبلوعا ومهضوما ولو تحت تهديد الأمن المركزي في أي من دول العالم الثالث، أما في بلد سقراط وأفلاطون، أما عند أحفاد الإسكندر فلا.. وألف مليون لأ!
خرج اليونانيون في الشوارع بشكل عشوائي غاضب أولا، وأوقدوا الشموع في المكان الذي سقط فيه الصبي القتيل على يد ضابط الشرطة، وبدأ الخبر ينتشر في أنحاء البلاد فأخذ الناس يتوافدون، وبدأت ثورتهم ليس على ضابط الشرطة بل على وزارة الداخلية والخارجية ووزارة العدل التي برّأت الضابط. أحرقوا أقسام الشرطة، ونزل آلاف من الأساتذة وطلاب المدارس إلى شوارع أثينا، فحدثت مصادمات مع ضباط الشرطة والمتظاهرين في الشوارع، وخرج هذا الحريق من أثينا ليعم أرجاء اليونان..
تحركت النقابات، وزعماء الأحزاب السياسية.. ليوقفوا هذا التدمير وليعود الشعب بعد غضبته إلى الشكل الحضاري الذي يستحقونه حتى في تظاهرهم؛ حيث دعت لاحتجاج عام، وأخذت الجامعات تنظم تظاهرات طلابية سوف تستمر إلى حين تجاب مطالبهم.. ترى ما هي مطالبهم؟ تجد ذلك كما تناقلتها وسائل الإعلام على ألسنة أحد قادة الطلبة في جامعة يونانية!! نعم قائد طلابي يعلن عن مطالب شعب.. فماذا قال:
"إن مقتل شاب بيننا على يد ضابط شرطة يعني أن المواطن اليوناني رخيصة روحه، ورخيصة كرامته في ظل هذه الحكومة، وإن وزير الداخلية مسئول عن وصول ضابط يعمل تحت سلطته لهذه المرحلة من الاستهزاء بشعب كامل في صورة صبي منهم!! ومسئول أيضا وزير العدل الذي برَّأ قاضٍ -في عهده- ضابط شرطة من مسئولية إزهاق روح إنسان، كانت له آماله وطموحاته وقيمته التي تساوي قيمة الشعب اليوناني كله.. وهي مسئولية رئيس الوزراء الذي سمح بكل هذه المهزلة أن تحدث وانتظر دون أن يتدخل.. ولهذا نطالب:
أولا: بتقديم الضابط للمحاكمة وتحمله مسئولية فعله..
ثانيا: استقالة الحكومة التي لم تحترم شعبها والتي تظن بأن اليونانيين سيقبلون أن يخرج عليهم رجال الشرطة بالعصي والقنابل المسيلة للدموع.. وسيقفون مكتوفي الأيدي كما يفعل الأذلاء في بعض البلاد.. واستطرد الشاب قائلا: نحن شعب له تاريخ، شعب أنار الدنيا بحكمة أبنائه، شعب يعتز بكرامته، والكرامة والحرية عندنا قبل كل شيء، وما دامت الحكومة اختارت أن تحكمنا في هذا الظرف برجال الشرطة، فلتذهب الشرطة وحكومتها كلها إلى الجحيم وليبقَ الشعب مرفوع الرأس!!
وبالفعل تم القبض على شرطيين يشتبه بتورطهما في الحادث، وأعلن رئيس الوزراء أن الجاني سيلقى عقابه، وأن المتضررين من أحداث الشغب ستعوضهم الحكومة –تعويض بجد- وأن الحكومة ستتحمل مسئوليتها أمام الشعب في كل ما حدث، ووجه "كرامنليس" الدعوة إلى الوحدة الوطنية، ووحدة الصف السياسي في هذا الظرف الشديد الذي تمر به البلاد، ووجه نداءً إلى نقابات العمال لتقوم بإلغاء احتجاجاتها ومظاهراتها إلا أن النقابات رفضت ذلك، وجموع الشعب الغاضب رفضت ذلك، وأخيرا فإن رؤساء الأحزاب رفضوا ذلك أيضا، وقال أحدهم وهو يتحدث أمام كتلة حزبه النيابية: "إن الخدمة الوحيدة التي يمكن أن تسديها هذه الحكومة للبلاد هي أن ترحل"، مطالباً بتنظيم انتخابات مبكرة أو بالاحتكام إلى الشعب ليعطي من يستحق أن يخدمه شرف هذه الخدمة"..
يبدو أن الرغبة في الفرعنة والقمع تغزو نفوس الكثيرين من أصحاب السُّلطة والسطوة في العالم.. ولكن يكمن الفرق الوحيد في الشعوب.. ففرق كبير بين شعب يرى أن الشرطة في خدمته وإن لم يتخذها شعارا له.. وشعب آخر اتخذت فيه الشرطة هذه الكلمات شعارا لها، ثم طالبت بالمساواة في الخدمة ليصبح الشعب والشرطة في خدمة الوطن!!